لم تكن المرة الأولى.. و "سلمى" على يقين مِن أنها لن تكون الأخيرة!
"ماذا عليّ أن أفعل؟"
"كيف لي أن أثنيه عن المضي قدمًا في هذا الدرب الطويل الشَّاق!"
"لا أدري كيف يستعذب الألم! وكيف يرَى شوك الطريق أزهارًا فواحة الأرائج!"
كانت كل تلك الأسئلة تمور داخلها، لكنها لا تقوى على الإفصاح عنها، لأنها
تحبّه، وتحبّ فيه صدقه.. عزمه.. جرأته في قول كلمة الحق.. عزَّته.. ثباته..
وقلبه الرحيم!
نظر إليها بصمت، والعين تفشي سـرَّ القلب، ثمّ مضى نحو غرفة مكتبه بخطوات هادئة مُثقلة.
فما زالت تلك الغرفة عالمه الخاص الذي يأوي إليه كلما شعر أنّه بحاجة إلى
مُـتَّـكـأ ، وما زالت مَلاذه الوحيد ساعةَ شعوره بتهالك قواه!
يَصعُب عليه أن يُظهِر ضَعفه قبالتها.. قبالتها هي بالذَّات!
ولَـجَ غرفته وأغلق بابها، ثم مـدَّ يده إلى مفتاح الضوء لكنه تراجع: ما
الذي جَنَيْتُهُ مِن رؤية الأشياء على حقيقتها؟ الظلام سكون وراحة، الظلام
سكون وراحة..!
استقبل الأرض بكفيه ثم استوى جالسًا، أسند ظهره إلى
مكتبته، ألقى رأسه المُثخن على أحد رفوفها، ضـمّ يديه إلى صدره، وتنفَّس
الصعداء زافِرًا الآه تلو الآه!
راح يضرب الأرض بباطن قدميه ضربات
خفيفة هامِسًا: منكِ وإليكِ، فالموت مقدَّر، ومن ثم إما الجنَّة أبدًا، أو
النار أبدًا.. فاختر لنفسك يا هُمام!
ألصق ظهره بمكتبته أكثر وأكثر: أي
جنون يسكنني يا أنتِ! فها أنا ذا أعود إليكِ في كل مرة ساندًا ظهري على
الرغم مِن كونك سبب كل مَتاعبي!
سال دمعه هادئًا كهدوء الكون من حوله، مالِحًا كملوحة أيامه ولياليه في المعتقل، لاذِعًا كلذع الحق الذي يناضل من أجله!
فتحت
"سلمى" باب صومعته، وبيدها قنديلها الصغير ـ الذي تستجير به دومًا في مثل
هذا الموقف ـ فوقع بصرها على تلك البطاقات الملونة المُلصقة على جدار
الغرفة قبالتها..
لطالما تأمَّلتْ ما كُتِب عليها محاولةً سبر أغوار هذا الرجل الذي لا تنكسر شوكته ولا تلين له قناة، وإن اعترته لحظات ضعف!
عبارات منوَّعة، لكل منها نبض خاص، وقع خاص.. هي زاد مختلف لا يصلح قوتًا إلا له ولأمثاله ممَّن أدركوا أن للحياة معنى آخر!
بطاقات تبدو للناظر ـ من أول وهلة ـ أنها قد نُـثِرَت عشوائـيًّا، لكنه إن
عاد إلى الوراء قليلا، ثم أطلق لبصره العِنان فسيرى ذلك النقش الجميل
لكلمة: لا إلـه إلا الله!
سَرَتْ أشعَّة قنديلها مُبدِّدة العتمة، فبدت لها بعض العبارات واضحة مقروءة:
"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحـرارًا!"
"يا جنود الله صبرًا = إن بعد العسر يسرًا
لا تظنوا السجن قهرًا = ربَّ سجن قادَ نصرًا"
"إن لم تكن للحـقِّ = أنتَ فمَن يكـون؟!"
"سأثأر لكن لربٍّ ودين = وأمضي على سنتي في يقين"
"عرفتُ قصَّة الطريق كلّها
المـوت أول المطـاف
لكن خضرة الطريق لا يصيبها الجفاف!
قـادم.. وقـادم.. وقـادمُ"
" فلا بديل للإقـدام.. غير سَحقة الأقـدام!"
غضَّت "سلمى" طرفها، ثم اقتربتْ مِنه فجفّف دمعه وابتسم: تأتين فيأتي الـنُّـور والفـرح!
بسطَ كفَّـيْه، فقد اعتاد منها أن تقدم له ورقة وقلمًا رجاءَ أن يحفظ هذه
اللحظة وأحاسيسها بين السُّطور، فوضعت في كفه اليُمنى ظَرفًا، ثم سلَّطتْ
عليه ضوء قنديلها وترقَّبت!
- ما هذا؟!
- خَبر سعيد!
فتح الظرف على عَجَل، أخرج الورقة المطويَّة، رجفت يداه: لا أرى سوى كتلة بيضاء تسبح في السَّواد!
- بل نُطفة من صلبكَ استقرَّت في رَحِمي، أراه أمامي طفلا جميلا.. أملا مُـنيرًا.. وتحـدٍّ جَـديـد!
انتفض، هبَّ واقفًا، ثم خر شاكرًا لله تعالى.. طال سجوده فانهمر دمعها!
رفع هامَته، امتدت يده إلى مفتاح الضوء، أشعله، فغشيه النور.. اقترب مِن
رفيقة دربه احتضنها بحنان، وقـبَّل جبينها بحـبٍّ، ثم اتجه نحو مكتبه،
تناول ملف قضاياه وأضاف إلى القائمة: مستقبل الأجيال القادمة.. أمانة في
أعناقنا!
[list=1]
[*]